الأربعاء، 24 أكتوبر 2012

الذاكرة


الذاكرة .
نص السؤال : هل الذاكرة مرتبطة بالدماغ وحسب ؟
إن حياة الإنسان لا تقتصر على معرفة الحاضر فقط , فهو يعيش الزمن بأبعاده الثلاثة , الماضي والحاضر والمستقبل , فإذا ما انقطع عن إدراك الحاضر عاد إلى تفحص الصور الذهنية المدركة التي أصبحت من الماضي لتعاقب الزمن عليها . وهذه الصور الذهنية التي هي في الواقع من مدركات الماضي تتطلب من الإنسان قدرة عقلية فعالة لاسترجاعها في الزمن الحاضر مما يثبت أنها كانت مخزنة في جانب ما تم تذكرها أي استدعاؤها إلى الزمن الحاضر , وعليه فهل التخزين والتذكر يعودان إلى نشاط الدماغ وحده ؟ بمعنى آخر هل الذاكرة ذات طبيعة فيزيولوجية " عضوية " ؟
الذاكرة وظيفة عضوية مرتبطة بالدماغ :
يفسر بعض الفلاسفة والعلماء الذاكرة تفسيرا ماديا بردها إلى دور الأعضاء وخاصة الدماغ في حفظ الذكريات وفي استرجاعها حيث قال عنها ابن سينا : " إنها قوة محلها التجويف الأخير من الدماغ من شأنها حفظ ما يدركه الوهم من المعاني الجزئية " . فوظيفة الذاكرة بهذا المعنى هي الحفظ والتذكر , وهذا الرأي نجده عند ديكارت الذي كان يقول : " إن الذاكرة تكمن في ثنايا الجسم " و المقصود بذلك هو الدماغ وهذا ما عبر عنه " تين Taine " بقوله : " المخ وعاء لحفظ الذكريات " .
غير أن التفسير المادي للذاكرة تبلور بشكل أكثر وضوحا مع ريبو Ribot .ومن خلال كتابه " أمراض الذاكرة " حيث قال : " إن الذاكرة بطبيعتها عمل بيولوجي " . كما قال أيضا : " الذاكرة وظيفة عامة للجهاز العصبي ... " فالذكريات عنده تثبت في الجهاز العصبي أي في الدماغ الذي يعتبره بمثابة وعاء للذكريات , فالذاكرة بمثابة الأسطوانة تخزن الذكريات كما تخزن الأخرى الأغاني وتبعث بمؤثرات الحاضر , والذكريات تثبت بطريقة آلية حيث تنطبق حركاتها مع الجهاز العصبي وهي بذلك شبيهة بالعادة , وأي مرض أو إتلاف يصيب الخلايا العصبية يؤدي إلى إتلاف الذكريات الموجودة هناك , و يكون هذا التحلل أو الفقدان حسب قوانين ثابتة تظهر في قوله : " إن فقدان الذكريات عند التحلل الجزئي تتبع طريقة لا تتغير أسماء الأعلام فأسماء الأجناس ... فالإيماءات أما عند التحلل العام فالحوادث القريبة العهد فالأفكار ... فالأفعال . كما أن عودتها تكون وفقا للترتيب المعاكس لفقدانها " .
لا شك في أن للدماغ دورا في حفظ وبعث الذكريات , ولكن ربط الذاكرة بالدماغ وحده فيه مبالغة خاصة فيما يتعلق بأمراض الذاكرة وفقدانها بشكل مرتب وحسب قوانين .
الذاكرة وظيفة نفسية لا ترتبط بالدماغ :
يذهب بعض الفلاسفة والعلماء إلى تفسير الذاكرة تفسيرا روحيا لا ماديا وعلى رأس هؤلاء " برغسون " الذي انتقد النظرية المادية وخاصة نظرية ريبو في تعلق الذاكرة بالدماغ حيث يرى أنه يحدث وأن تعود فجأة الذكرى التي كنا نظن أنها أتلفت وهذا بفعل تأثير قوي على النفس فهل من المعقول أن يحدث ذلك لو أنها كانت نتيجة إتلاف خلايا الدماغ ؟ كما انتقد ريبو بشدة في الذاكرة المرضية حيث يقول : " أفلا يكون من الغريب حقا أن يمس هذا المرض هذه الخلايا بالترتيب ؟ " .
وهكذا يخلص برغسون إلى أن ريبو قد اخلط بين نوعين من الذاكرة :
أ- الذاكرة العادة : وهي ذاكرة جسمية أو حركية وهي حركات مخزونة في الجسد تكونت نتيجة تكرارها .
ب- الذاكرة الروحية : وهي ذاكرة بسيكولوجية  شعورية أو لاشعورية ) وهي نفسية خالصة تولد تامة , تحفظ ذكريات الماضي دفعة واحدة بصورة مستقلة عن الدماغ , فهي من طبيعتها ألا تتكرر . فالذكرى تتردد بين الشعور و اللاشعور وما الدماغ إلا أداة استحضار وما دامت الذكرى روحية فلا معنى للسؤال أين توجد ؟ وقولنا أنها موجودة في الفكر يكون على سبيل المجاز فقط .
لا نشك في أن الذاكرة ترتبط بالنفس , وفي أن التمييز بين الذاكرة الحركية والنفسية يزيد الموضوع وضوحا , لكن الفصل التام بين ما هو عضوي وما هو نفسي فيه مبالغة , والتجربة تثبت استرجاع الذكرى يحتاج إلى سند مادي ملائم . فالذكريات قد تبعثها حركات جسمية .
الذاكرة ليست وظيفة فردية ( فيزيولوجية أو بسيكولوجية ) بل نشاط جماعي :
يذهب بعض الفلاسفة إلى تجاوز التفسير المادي والتفسير الروحي باعتبار الذاكرة وظيفة اجتماعية بحيث تتدخل المفاهيم الاجتماعية من تفكير ولغة و عادات ...الخ . في عملية التذكر مما يجسد التعاون بين الذاكرات . حيث يقول " هالفكس " في كتابه " الأطر الاجتماعية للذاكرة " : " إن الماضي لا يحتفظ به , انه يعاد بناؤه انطلاقا من الحاضر , والذكرى تكون قوية لما تنبعث من نقطة التقاء الأطر والنسيان هو نتيجة اختفاء هذه الأطر " . هكذا تصبح الذاكرة نشاطا اجتماعيا وليس عملا فرديا , فالذاكرة الحقة عنده هي الذاكرة الاجتماعية الناتجة عن التفاعل بين الأفراد .
إن الذاكرة باعتبارها صفة إنسانية هي مرتبطة هي مرتبطة بنشاط الفرد في حياته اليومية وبذلك تتدخل فيها معطيات متشبعة منها الجانب الجسمي ممثلا في دور الدماغ والجانب الروحي ممثلا في الحياة النفسية بجانبيها الشعوري و اللاشعوري بالإضافة إلى العلاقات الاجتماعية للفرد بأطرها ومفاهيمها الاجتماعية .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

عناوين المقالات

إشكالية الإدراك إشكالية العدل إشكالية تطبيق المنهج التجريبي على الظواهر الإنسانية الإحساس والإدراك الاستبيان الأمة الانفعالات التفكير الرياضي التفكير العلمي الحداثة في الأدب العربي الحرية والتحرر. الدولة والأمة الذاكرة الذكاء والتخيل الذكاء والذاكرة الشخصية والطبع الشعور واللاشعور الشغل والتنظيم الاقتصادي الطبيعة والثقافة العادة وأثرها العادة وأثرها على السلوك الفرضية شرط ضروري في كل بحث علمي الفلسفة نمط متميز من التفكير ما الذي يبرر ذلك ؟ اللغة و الفكر اللغة والتواصل المسؤولية و الجزاء المشكل الأخلاقي المغالطات في الفلسفة النص لـ غاستون باشلار Gaston Bachelard : النموذج والبراديغم أيهما أجدر بتحقيق العدالة : القانون أم الأخلاق ؟ أيهما أهم في الإدراك : العوامل الذاتية أم العوامل الموضوعية ؟ فلسفة فن النحت لا يوجد غيري فأنا وحدي الذي أقرر الخير واخترع الشر ما الدليل على وجود اللاشعور ؟ ما العلاقة بين السؤال العلمي والسؤال الفلسفي ؟ ما دور الثقافة في حياة الإنسان ؟ ما علاقة الطبيعة بالثقافة ؟ ما قيمة القياس؟ طريقة جدلية مقال حول أصل المعرفة الإشكال مقالة جدلية حول أصل المفاهيم الرياضية لأسئلة مقالة حول الحقيقة العلمية والحقيقة الفلسفية مقالة/ ھل أصل المفاھيم الریاضية تعود إلى العقل أم إلى التجربة؟ منهجية و مناهج البحث العلمي هل الإبداع ظاهرة فردية خاصة ؟ هل الاستبطان كاف لفهم سلوك الإنسان ؟ هل التجربة شرط في كل معرفة علمية ؟ هل المجتمع بالنسبة للفرد أداة قمع أم أداة تحرر؟ هل المجرم المسؤول الوحيد عن جرائمه ؟ هل النسيان مرض ؟ هل الوراثة وحدها كفيلة بإحداث فروق فردية ؟ هل تكفي المنافسة الحرة لتحقيق الرخاء الاقتصادي ؟ هل يشكل الشعور مجمل الحياة النفسية عند الإنسان ؟ هل يقوم الهيجان بوظيفة إيجابية دائما في حياة الفرد ؟ هل يمكن الاستغناء عن الفرض العلمي؟ هل يمكن الفصل بين الإحساس و الإدراك ؟ هل يمكن القول ان العقل هو اساس القيمة الاخلاقية ؟