نص الموضوع : " الفلسفة نمط متميز من التفكير" ما الذي يبرر ذلك ؟
إن ما يعرف عادة بالمعجزة اليونانية , يعود أساسا إلى بروز
ظاهرة جديدة في تفكير اليونانيين الذي تخلص شيئا فشيئا من العناصر الأسطورية و
الخرافية والغيبة التي كانت تسيطر عليه وعلى معظم الظواهر الفكرية السابقة لتلك
الفترة . وهو تفكير ينطلق من إدراك الذات البشرية لذاتها ووعيها بقدرتها على البحث
في الموضوعات الخارجية وبلوغ حقائقها , وهو ما يعرف بالتفكير الفلسفي أو القدرة
على التفلسف فما هي خصوصيات التفكير الفلسفي ؟ وما الذي يجعله تفكيرا متميزا ؟
إن من أبرز خصوصيات التفكير الفلسفي أنه بمثابة محاولة
تجاوز لما هي عليه الحياة اليومية إلى شيء آخر أكثر قيمة بالنسبة للمرء , إلا أن
هذا الشيء القيم لا يتجلى للمرء من أول وهلة , كما أن محاولة التجاوز تتطلب من
المرء بحثا وتفكيرا عميقا , وهكذا يرتبط التفكير الفلسفي بذلك الجهد الفكري الذي
يبذله المرء والذي يجب على كل متفلسف أن يقوم به . هكذا كان حال الذي فلاسفة
اليونان الأوائل خاصة سقراط الذي صارع الرأي العام من جهة و السوفسطائيين من جهة
أخرى , فالممارسة الفلسفية تفرض على الفيلسوف التخلص من قيود العادات والتقاليد
البالية التي تقيد تفكيره , ومن سيطرة الأفكار والظواهر التي تحد من رؤيته ( فهو
يعالج موضوعا محددا انطلاقا من التساؤل عن العلل الأولى للوجود , مرورا بالمعرفة
والقيم إلى البحث في العلم , وهو ما يتبع في ذلك منهجا تأمليا عقليا يقوم على
خصائص تميزه عن منهج العلم التجريبي ) ولعل هذا ما يدفع بالفلاسفة إلى الشك من اجل
تحرير الفكر , والوقوف على اليقين مثلما هو الحال عند الغزالي وديكارت وهذا يقودنا
إلى ميزة أخرى من أهم مميزات التفكير الفلسفي وهي النظرة الفاحصة , واليقظة
الدائمة والانتباه المستمر أمام كل المشاكل التي تعترض الفيلسوف , فلا يقبل شيئا و
لا يرفض شيئا إلا بعد إخضاعه لمقياس العقل , فالخطاب الفلسفي خطاب عقلاني يستند
إلى البرهان .
إن الفلسفة في نظر برتراند رسل تبدأ عند وعي الإنسان بنقائص
معارفه وهذا الوعي لا نجده عند غالبية الناس بل البعض فقط هو الذي يدرك هذه
النقائص فيقول : " وإنك لتخطو الخطوة الأولى في سبيل الفلسفة إذا أدركت هذه
النقائص في تفكير العامة " . وهكذا فقد وجد فلاسفة في المجتمعات القديمة في
بلاد فارس والهند وغيرهما , إلا أن أرسطو يقول : إن البحث عن المعرفة الفلسفية لم
يبدأ إلا في البلاد التي تحقق فيها كل ما هو ضروري لتسديد حاجيات الحياة " .
وهذا يعني أن وجود التفكير الفلسفي مرتبط بالظروف الملائمة . ولعل هذا ما جعل
الفلسفة بالمعنى الدقيق لم تبدأ إلا مع اليونان . فالظروف الاقتصادية للمجتمع
اليوناني والتقسيم الطبقي فيه أفرز فئة متحررة من ضغط الحاجة كرست كل أوقاتها
للعمل الذهني , كما أن الظروف السياسية وما تمتع به المجتمع اليوناني من ديمقراطية
في إطار الدستور الأثيني الذي يضمن حرية التفكير والتعبير . وفر للفكر الظروف
الملائمة للتفتح والتطور . وهذا يفرض علينا أن نؤكد على ارتباط الفلسفة بالظروف
التي تنشأ فيها . فالظروف الملائمة شرط وجود الفلسفة.
إن الفلسفة هي سبب تطور الفكر البشري , وقيمتها تتمثل في
قدرتها على توعية الإنسان بواقعه , وبضرورة البحث عن حلول ناجحة للمشاكل الحقيقية
التي يواجهها على كل مستويات حياته الاجتماعية . فهي وإن كانت لا تقدم حلولا جاهزة
فإنها تفتح المجال للبحث والتفكير . وتطرح الأسئلة التي يجب على الإنسان أن يطرحها
. إلا أن الفلسفة جانبا من الخطورة على الإنسان ويتمثل في إمكانية إبعاد الإنسان
عن الواقع الذي يعيش فيه بمعالجتها لمسائل ثانوية ومجردة لا تخدم الإنسان و لا
تيسر عليه حياته .
إن التفكير الفلسفي تفكير متميز , يتميز عن الخرافة ويتميز
عن العلم , له موضوعه الخاص , وله منهجه الخاص أيضا , كان تمهيدا لظهور فكر بشري
مختص وسيظل حافزا ودافعا على العمل , فالمجتمع لا تستقيم حياته و لا يتقدم دون أن
يكون فيه فلاسفة , فيقول ديكارت : " إن حضارة كل أمة إنما تقاس بقدرة ناسها
على تفلسف أحسن , وهكذا فإن الخير كل الخير بالنسبة لأمة ما أن يكون فيها فلاسفة
حقيقيون " .
شكرا ليك على هذه المعلومات
ردحذف